كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالثة: قوله تعالى: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} لأنهما أتياه ليلًا في غير وقت دخول الخصوم.
وقيل: لدخولهم عليه بغير إذنه.
وقيل: لأنهم تسوّروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب.
قال ابن العربي: وكان محراب داود عليه السلام من الامتناع بالارتفاع، بحيث لا يرتقي إليه آدميّ بحيلة إلا أن يقيم إليه أيامًا أو أشهرًا بحسب طاقته، مع أعوان يكثر عددهم، وآلات جمة مختلفة الأنواع.
ولو قلنا: إنه يوصل إليه من باب المحراب لما قال الله تعالى مخبرًا عن ذلك: {تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ} إذ لا يقال تسوّر المحراب والغرفة لمن طلع إليها من درجها، وجاءها من أسفلها إلا أن يكون ذلك مجازًا؛ وإذا شاهدت الكوة التي يقال إنه دخل منها الخصمان علمت قطعًا أنهما ملَكَان؛ لأنها من العلو بحيث لا ينالها إلا عُلْويّ.
قال الثعلبي: وقد قيل: كان المتسوِّران أخوين من بني إسرائيل لأب وأم.
فلما قضى داود بينهما بقضية قال له مَلَك من الملائكة: فهلا قضيت بذلك على نفسك يا داود.
قال الثعلبي: والأول أحسن أنهما كانا مَلَكين نَبَّهَا داود على ما فعل.
قلت: وعلى هذا أكثر أهل التأويل.
فإن قيل: كيف يجوز أن يقول الملكان {خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} وذلك كذب والملائكة عن مثله منزَّهون.
فالجواب عنه أنه لابد في الكلام من تقدير؛ فكأنهما قالا: قدِّرنا كأننا خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق، وعلى ذلك يحمل قولهما: {إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} لأن ذلك وإن كان بصورة الخبر فالمراد إيراده على طريق التقدير لينبه داود على ما فعل؛ والله أعلم.
الرابعة: إن قيل: لِم فزع داود وهو نبيّ، وقد قويت نفسه بالنبوّة، واطمأنت بالوحي، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة، وأظهر على يديه من الآيات، وكان من الشجاعة في غاية المكانة؟ قيل له: ذلك سبيل الأنبياء قبله، لم يأمنوا القتل والأذِية ومنهما كان يخاف.
ألا ترى إلى موسى وهارون عليهما السلام كيف قالا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى} [طه: 45] فقال الله عز وجل: {لاَ تَخَافا}.
وقالت الرسل للوط: {لاَ تَخَفْ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ} [هود: 81] وكذا قال الملكان هنا: {لاَ تَخَفْ}.
قال محمد بن إسحاق: بعث الله إليه ملكين يختصمان إليه وهو في محرابه مثلًا ضربه الله له ولأوريا فرآهما واقفين على رأسه؛ فقال: ما أدخلكما عليّ؟ قالا: {لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ} فجئناك لتقضي بيننا.
الخامسة: قال ابن العربي: فإن قيل كيف لم يأمر بإخراجهما إذ قد علم مطلبهما، وهلا أدّبهما وقد دخلا عليه بغير إذن؟ فالجواب عليه من أربعة أوجه: الأوّل: أنا لم نعلم كيفية شرعه في الحجاب والإذن، فيكون الجواب بحسب تلك الأحكام، وقد كان ذلك في ابتداء شرعنا مهملًا في هذه الأحكام، حتى أوضحها الله تعالى بالبيان.
الثاني: أنا لو نزلنا الجواب على أحكام الحجاب، لاحتمل أن يكون الفزع الطارىء عليه أذهله عما كان يجب في ذلك له.
الثالث: أنه أراد أن يستوفي كلامهما الذي دخلا له حتى يعلم آخر الأمر منه، ويرى هل يحتمل التقحم فيه بغير إذن أم لا؟ وهل يقترن بذلك عذر لهما أم لا يكون لهما عذر فيه؟ فكان من آخر الحال ما انكشف أنه بلاء ومحنة، ومثل ضربه الله في القصة، وأدب وقع على دعوى العصمة.
الرابع: أنه يحتمل أن يكون في مسجد ولا إذن في المسجد لأحد إذ لا حجر فيه على أحد.
قلت: وقول خامس ذكره القشيري؛ وهو أنهما قالا: لما لم يأذن لنا الموكلون بالحجاب، توصلنا إلى الدخول بالتّسور، وخفنا أن يتفاقم الأمر بيننا.
فقبل داود عذرهم، وأصغى إلى قولهم.
السادسة: قوله تعالى: {خَصْمَانِ} إن قيل: كيف قال: {خَصْمَانِ} وقبل هذا: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَاب} فقيل: لأن الاثنين جمع؛ قال الخليل: كما تقول نحن فعلنا إذا كنتما اثنين.
وقال الكسائي: جمع لما كان خبرًا، فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة، خبّر الاثنان عن أنفسهما فقالا خصمان.
وقال الزجاج: المعنى نحن خصمان.
وقال غيره: القول محذوف؛ أي يقول: {خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ} قال الكسائي: ولو كان بغى بعضهما على بعض لجاز.
الماوردي: وكانا ملكين، ولم يكونا خصمين ولا باغيين، ولا يتأتى منهما كذب؛ وتقدير كلامهما ما تقول: إن أتاك خصمان قالا بغى بعضنا على بعض.
وقيل: أي نحن فريقان من الخصوم بغى بعضنا على بعض.
وعلى هذا يحتمل أن تكون الخصومة بين اثنين ومع كل واحد جمع.
ويحتمل أن يكون لكل واحد من هذا الفريق خصومة مع كل واحد من الفريق الآخر، فحضروا الخصومات ولكن ابتدأ منهم اثنان، فعرف داود بذكر النكاح القصة.
وأغنى ذلك عن التعرّض للخصومات الأخر.
والبغي التعدّي والخروج عن الواجب.
يقال: بغى الجُرْح إذا أفرط وجعه وترامى إلى ما يفحش، ومنه بغت المرأة إذا أتت الفاحشة.
السابعة: قوله تعالى: {فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ} أي لا تَجُرْ؛ قاله السدّي.
وحكى أبو عبيد: شططت عليه وأشططت أي جُرت.
وفي حديث تميم الدارِيّ: «إنك لشَاطِّي» أي جائر عليّ في الحكم. وقال قتادة: لا تَمِل. الأخفش: لا تُسرِف. وقيل: لا تُفرط. والمعنى متقارب.
والأصل فيه البعد من شطتِ الدار أي بعدت؛ شطّتِ الدار تَشِطّ وتَشُطّ شطًّا وشُطوطًا بعدت.
وأشطَّ في القضية أي جار، وأَشطّ في السَّوْم واشتط أي أبعد، وأشطُّوا في طلبي أي أمعنوا.
قال أبو عمرو: الشطط مجاوزة القدر في كل شيء.
وفي الحديث: «لها مهر مثلها لا وَكْسَ ولا شطط» أي لا نقصان ولا زيادة.
وفي التنزيل: {لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 14] أي جورًا من القول وبعدًا عن الحق.
{واهدنآ إلى سَوَاءِ الصراط} أي أرشدنا إلى قصد السبيل.
الثامنة: قوله تعالى: {إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أي قال الملَكَ الذي تكلم عن أورِيا {إِنَّ هَذَا أَخِي} أي على ديني، وأشار إلى المدّعى عليه.
وقيل: أخي أي صاحبي.
{لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} وقرأ الحسن: {تَسْعٌ وَتَسْعُونَ نَعْجَةً} بفتح التاء فيهما وهي لغة شاذة، وهي الصحيحة من قراءة الحسن؛ قاله النحاس.
والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة؛ لما هي عليه من السكون والمعجَزة وضعف الجانب.
وقد يكنى عنها بالبقرة والحِجْرة والناقة؛ لأن الكل مركوب.
قال ابن عون:
أنا أبوهنّ ثلاثٌ هُنَّهْ ** رابعةٌ في البيت صُغْرا هُنَّهْ

ونعجتي خمسا تُوفِّيهِنَّهْ ** أَلاَ فتًى سمحٌ يُغذِّيهِنَّهْ

طَيُّ النَّقَا في الجوع يَطْوِيهِنَّهْ ** ويلُ الرَّغِيف ويلَهُ منْهُنَّهْ

وقال عنترة:
يا شاةَ ما قَنَصٍ لِمن حَلَّتْ لَهُ ** حَرُمتْ عليّ وليتَها لم تَحْرُمِ

فَبَعَثْتُ جاريتي فقلتُ لها اذْهَبِي ** فتَجَسَّسِي أخبارَها لي وَاعْلَمِ

قالتْ رأيْتُ مِن الأعادي غِرَّةً ** والشّاةُ مُمْكِنَةٌ لمن هو مُرْتَمِ

فكَأَنَّمَا الْتَفَتَتْ بِجيدِ جِدايةٍ ** رَشَإٍ مِنَ الغِزْلانِ حُرٍّ أَرْثَمِ

وقال آخر:
فرَمَيْتُ غَفْلَةَ عَيْنِهِ عَنْ شَاتِهِ ** فَأَصَبْتُ حَبَّةَ قَلْبِها وطِحَالَهَا

وهذا من أحسن التعريض حيث كنى بالنعاج عن النساء.
قال الحسين بن الفضل: هذا من الملكين تعريض وتنبيه كقولهم ضرب زيد عمرا، وما كان ضرب ولا نعاج على التحقيق، كأنه قال: نحن خصمان هذه حالنا.
قال أبو جعفر النحاس: وأحسن ما قيل في هذا أن المعنى: يقول: خصمان بغى بعضنا على بعض على جهة المسألة؛ كما تقول: رجل يقول لامرأته كذا؛ ما يجب عليه؟
قلت: وقد تأوّل المزنيّ صاحب الشافعي هذه الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب الذي خرجه الموطأ وغيره: «هو لكَ يا عبدُ بنَ زَمْعَة» على نحو هذا؛ قال المزني: يحتمل هذا الحديث عندي والله أعلم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة فأعلمهم بالحكم أنّ هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنى، لا أنه قبل على عتبة قول أخيه سعد، ولا على زَمْعَة قول ابنه إنه ولد زنى، لأن كل واحد منهما أخبر عن غيره.
وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره.
وقد ذكر الله سبحانه في كتابه مثل ذلك في قصة داود والملائكة؛ إذ دخلوا عليه ففزع منهم، قالوا: لا تخف خصمان ولم يكونوا خصمين، ولا كان لواحد منهم تسع وتسعون نعجة، ولكنهم كلموه على المسألة ليعرِف بها ما أرادوا تعريفه.
فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حكم في هذه القصة على المسألة، وإن لم يكن أحد يؤنسني على هذا التأويل في الحديث؛ فإنه عندي صحيح.
والله أعلم.
التاسعة: قال النحاس: وفي قراءة ابن مسعود {إِنَّ هَذَا أَخِي كَانَ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى} و{كان} هنا مثل قوله عز وجل: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 96] فأما قوله: {أنثى} فهو تأكيد، كما يقال: هو رجل ذكر وهو تأكيد.
وقيل: لما كان يقال هذه مائة نعجة، وإن كان فيها من الذكور شيء يسير، جاز أن يقال: أنثى ليعلم أنه لا ذكر فيها.
وفي التفسير: له تسع وتسعون امرأة.
قال ابن العربي: إن كان جميعهن أحرارًا فذلك شرعه، وإن كنّ إماء فذلك شرعنا.
والظاهر أن شرع من تقدم قبلنا لم يكن محصورًا بعدد، وإنما الحصر في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لضعف الأبدان وقلة الأعمار.
وقال القشيري: ويجوز أن يقال: لم يكن له هذا العدد بعينه، ولكن المقصود ضرب مثل، كما تقول: لو جئتني مائة مرة لم أقض حاجتك، أي مرارًا كثيرة.
قال ابن العربي: قال بعض المفسرين: لم يكن لداود مائة امرأة، وإنما ذكر التسعة والتسعين مثلًا؛ المعنى: هذا غنيّ عن الزوجة وأنا مفتقر إليها.
وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن العدول عن الظاهر بغير دليل لا معنى له، ولا دليل يدلّ على أن شرع من قبلنا كان مقصورًا من النساءِ على ما في شرعنا.
الثاني: أنه روى البخاري وغيره أن سليمان قال: «لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة غلامًا يقاتل في سبيل الله ونسي أن يقول إن شاء الله» وهذا نص.
العاشرة: قوله تعالى: {وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} أي امرأة واحدة: {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} أي انزل لي عنها حتى أكفلها.
وقال ابن عباس: أعطنيها.
وعنه: تحوّل لي عنها.
وقاله ابن مسعود.
وقال أبو العالية: ضمها إليّ حتى أكفلها.
وقال ابن كيسان: اجعلها كِفلي ونصيبي.
{وَعَزَّنِي فِي الخطاب} أي غلبني.
قال الضحاك: إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني.
يقال: عزّه يَعُزُّه بضم العين في المستقبل عَزًّا غلبه.
وفي المثل: من عَزَّ بَزَّ؛ أي من غَلَبَ سَلَب.
والاسم العزة وهي القوّة والغلبة.
قال الشاعر:
قَطاةٌ عَزَّها شَرَكٌ فباتَتْ ** تُجاذِبهُ وقد عَلِقَ الْجنَاحُ

وقرأ عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير: {وَعَازَّنِي فِي الْخطَابِ} أي غالبني؛ من المعازَّة وهي المغالبة؛ عازَّهُ أي غالبه.
قال ابن العربي: واختلف في سبب الغلبة؛ فقيل: معناه غلبني ببيانه.
وقيل: غلبني بسلطانه؛ لأنه لما سأله لم يستطع خلافه.
كان ببلادنا أمير يقال له: سير بن أبي بكر فكلمته في أن يسأل لي رجلًا حاجة، فقال لي: أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غصب لها.
فقلت: أما إذا كان عدلًا فلا.
فعجبت من عجمته وحفظه لما تمثل به وفطنته، كما عجب من جوابي له واستغربه.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ} قال النحاس: فيقال إن هذه كانت خطيئة داود عليه السلام؛ لأنه قال: لقد ظلمك من غير تثبت ببيّنة، ولا إقرار من الخصم؛ هل كان هذا كذا أو لم يكن.
فهذا قول.
وسيأتي بيانه في المسألة بعد هذا، وهو حسن إن شاء الله تعالى.
وقال أبو جعفر النحاس: فأما قول العلماء الذين لا يدفع قولهم؛ منهم عبد الله بن مسعود وابن عباس، فإنهم قالوا: ما زاد داود صلى الله على نبينا وعليه على أن قال للرجل انزل لي عن امرأتك.
قال أبو جعفر: فعاتبه الله عز وجل على ذلك ونبّهه عليه، وليس هذا بكبير من المعاصي، ومن تخطى إلى غير هذا فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم، ويلحقه فيه إثم عظيم.
كذا قال: في كتاب إعراب القرآن.
وقال: في كتاب معاني القرآن له بمثله.